فصل: سورة الشمس:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.سورة البلد:

.تفسير الآيات (1- 20):

{لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)}
{وأنت حل}: جملة حالية تفيد تعظيم المقسم به، أي فأنت مقيم به، وهذا هو الظاهر. وقال ابن عباس وجماعة: معناه: وأنت حلال بهذا البلد، يحل لك فيه قتل من شئت، وكان هذا يوم فتح مكة. وقال ابن عطية: وهذا يتركب على قول من قال لا نافية، أي إن هذا البلد لا يقسم الله به، وقد جاء أهله بأعمال توجب الإحلال، إحلال حرمته. وقال شرحبيل بن سعد: يعني {وأنت حل بهذا البلد}، جعلوك حلالاً مستحل الأذى والقتل والإخراج، وهذا القول بدأ به الزمخشري، وقال: وفيه بعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة، وتعجب من حالهم في عداوته، أو سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقسم ببلده على أن الإنسان لا يحلو من مقاساة الشدائد، واعترض بأن وعده فتح مكة تتميماً للتسلية والتنفيس عنه، فقال: وأنت حل به في المستقبل تصنع فيه ما تريده من القتل والأسر.
ثم قال الزمخشري: بعد كلام طويل: فإن قلت: أين نظير قوله: {وأنت حل} في معنى الاستقبال؟ قلت: قوله عز وجل: {إنك ميت وإنهم ميتون} واسع في كلام العباد، تقول لمن تعده الإكرام والحبا: وأنت مكرم محبو، وهو في كلام الله أوسع، لأن الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة، وكفاك دليلاً قاطعاً على أنه للاستقبال، وأن تفسيره بالحال محال. إن السورة بالاتفاق مكية، وأين الهجرة من وقت نزولها؟ فما بال الفتح؟ انتهى. وحمله على أن الجملة اعتراضية لا يتعين، وقد ذكرنا أولاً أنها جملة حالية، وبينا حسن موقعها، وهي حال مقارنة، لا مقدرة ولا محكية؛ فليست من الإخبار بالمستقبل. وأما سؤاله والجواب، فهذا لا يسأله من له أدنى تعلق بالنحو، لأن الأخبار قد تكون بالمستقبلات، وإن اسم الفاعل وما يجري مجراه حالة إسناده أو الوصف به لا يتعين حمله على الحال، بل يكون للماضي تارة، وللحال أخرى، وللمستقبل أخرى؛ وهذا من مبادئ علم النحو. وأما قوله: وكفاك دليلاً قاطعاً الخ، فليس بشيء، لأنا لم نحمل {وأنت حل} على أنه يحل لك ما تصنع في مكة من الأسر والقتل في وقت نزولها بمكة فتنافيا، بل حملناه على أنه مقيم بها خاصة، وهو وقت النزول كان مقيماً بها ضرورة. وأيضاً فما حكاه من الاتفاق على أنها نزلت بمكة فليس بصحيح، وقد حكى الخلاف فيها عن قول ابن عطية، ولا يدل قوله: {وأنت حل بهذا البلد} على ما ذكروه من أن المعنى يستحل إذ ذاك، ولا على أنك تستحل فيه أشياء، بل الظاهر ما ذكرناه أولاً من أنه تعالى أقسم بها لما جمعت من الشرفين، شرفها بإضافتها إلى الله تعالى، وشرفها بحضور رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقامته فيها، فصارت أهلاً لأن يقسم بها.
والظاهر أن قوله: {ووالد وما ولد}، لا يراد به معين، بل ينطلق على كل والد. وقال ابن عباس ذلك، قال: هو على العموم يدخل فيه جميع الحيوان. وقال مجاهد: آدم وجميع ولده. وقيل: والصالحين من ذريته. وقيل: نوح وذريته. وقال أبو عمران الحوفي: إبراهيم عليه السلام وجميع ولده. وقيل: ووالد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ولد إبراهيم عليه السلام. وقال الطبري والماوردي: يحتمل أن يكون الوالد النبي صلى الله عليه وسلم لتقدم ذكره، وما ولد أمته، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد» ولقراءة عبد الله: {وأزواجه أمهاتهم} وهو أب لهم، فأقسم تعالى به وبأمته بعد أن أقسم ببلده، مبالغة في شرفه عليه الصلاة والسلام. وقال الزمخشري: فإن قلت: ما المراد بوالد وما ولد؟ قلت: رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ولده. أقسم ببلده الذي هو مسقط رأسه، وحرم أبيه إبراهيم، ومنشأ أبيه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام، وبمن ولده وبه. فإن قلت: لم نكر؟ قلت: للإبهام المستقل بالمدح والتعجب. فإن قلت: هلا قيل: ومن ولد؟ قلت: فيه ما في قوله: {والله أعلم بما وضعت} أي بأي شيء وضعت، يعني موضوعاً عجيب الشأن. انتهى. وقال الفراء: وصلح ما للناس، كقوله: {ما طاب لكم} {وما خلق الذكر والأنثى} وهو الخالق للذكر والأنثى. انتهى. وقال ابن عباس وعكرمة وابن جبير: المراد بالوالد الذي يولد له، وبما ولد العاقر الذي لا يولد له. جعلوا ما نافية، فتحتاج إلى تقدير موصول يصح به هذا المعنى، كأنه قال: ووالد والذي ما ولد، وإضمار الموصول لا يجوز عند البصريين.
{لقد خلقنا الإنسان في كبد}: هذه الجملة المقسم عليها. والجمهور: على أن الإنسان اسم جنس، وفي كبد: يكابد مشاق الدنيا والآخرة، ومشاقه لا تكاد تنحصر من أول قطع سرته إلى أن يستقر قراره، إما في جنة فتزول عنه المشقات؛ وإما في نار فتتضاعف مشقاته وشدائده. وقال ابن عباس وعبد الله بن شداد وأبو صالح والضحاك ومجاهد: {في كبد} معناه: منتصب القامة واقفاً، ولم يخلق منكباً على وجهه، وهذا امتنان عليه. وقال ابن كيسان: منتصباً رأسه في بطن أمه، فإذا أذن له بالخروج، قلب رأسه إلى قدمي أمه. وعن ابن عمر: يكابد الشكر على السرّاء، ويكابد الصبر على الضراء. وقال ابن زيد: {الإنسان}: آدم، {في كبد}: في السماء، سماها كبداً، وهذه الأقوال ضعيفة، والأول هو الظاهر. والظاهر أن الضمير في {أيحسب} عائد على {الإنسان}، أي هو لشدة شكيمته وعزته وقوته يحسب أن لا يقاومه أحد، ولا يقدر عليه أحد لاستعصامه بعدده وعدده. يقول على سبيل الفخر: {أهلكت مالاً لبداً}: أي في المكارم وما يحصل به الثناء، أيحسب أن أعماله تخفى، وأنه لا يراه أحد، ولا يطلع عليه في إنفاقه ومقصد ما يبتغيه مما ليس لوجه الله منه شيء؟ بل عليه حفظة يكتبون ما يصدر منه من عمل في حياته ويحصونه إلى يوم الجزاء.
وقيل: الضمير في {أيحسب} لبعض صناديد قريش. وقيل: هو أبو الأسد أسيد بن كلدة، كان يبسط له الأديم العكاظي، فيقوم عليه ويقول: من أزالني عنه فله كذا، فلا ينزع إلا قطعاً، ويبقى موضع قدميه. وقيل: الوليد بن المغيرة. وقيل: الحرث بن عامر بن نوفل، وكان إذا أذنب استفتى النبي صلى الله عليه وسلم، فيأمره بالكفارة، فقال: لقد أهلكت مالاً لبداً في الكفارات والتبعات منذ تبعت محمداً صلى الله عليه وسلم. وقرأ الجمهور: لبداً، بضم اللام وفتح الباء؛ وأبو جعفر: بشدّ الباء؛ وعنه وعن زيد بن علي: لبداً بسكون الباء، ومجاهد وابن أبي الزناد: بضمهما.
ثم عدّد تعالى على الإنسان نعمه فقال: {ألم نجعل له عينين} يبصر بهما، {ولساناً} يفصح عما في باطنه، {وشفتين} يطبقهما على فيه ويستعين بهما على الأكل والشرب والنفخ وغير ذلك. {وهديناه النجدين}، قال ابن مسعود وابن عباس والجمهور: طريق الخير والشر. وقال ابن عباس أيضاً، وعليّ وابن المسيب والضحاك: الثديين، لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه. {فلا اقتحم العقبة}: أي لم يشكر تلك النعم السابقة، والعقبة استعارة لهذا العمل الشاق على النفس من حيث هو بذل مال، تشبيه بعقبة الجبل، وهو ما صعب منه، وكان صعوداً، فإنه يلحقه مشقة في سلوكها. واقتحمها: دخلها بسرعة وضغط وشدّة، والقحمة: الشدّة والسنة الشديدة. ويقال: قحم في الأمر قحوماً: رمى نفسه فيه من غير روية. والظاهر أن لا للنفي، وهو قول أبي عبيدة والفرّاء والزجاج، كأنه قال: وهبنا له الجوارح ودللناه على السبيل، فما فعل خيراً، أي فلم يقتحم. قال الفرّاء والزجاج: ذكر لا مرة واحدة، والعرب لا تكاد تفرد لا مع الفعل الماضي حتى تعيد، كقوله تعالى: {فلا صدق ولا صلى} وإنما أفردها لدلالة آخر الكلام على معناه، فيجوز أن يكون قوله: {ثم كان من الذين آمنوا}، قائماً مقام التكرير، كأنه قال: فلا اقتحم العقبة ولا آمن. وقيل: هو جار مجرى الدعاء، كقوله: لا نجا ولا سلم، دعاء عليه أن لا يفعل خيراً. وقيل: هو تحضيض بألا، ولا نعرف أن لا وحدها تكون للتحضيض، وليس معها الهمزة. وقيل: العقبة: جهنم، لا ينجي منها إلا هذه الأعمال، قاله الحسن. وقال ابن عباس ومجاهد وكعب: جبل في جهنم. وقال الزمخشري، بعد أن تنحل مقالة الفرّاء والزجاج: هي بمعنى لا متكررة في المعنى، لأن معنى {فلا اقتحم العقبة}: فلا فك رقبة ولا أطعم مسكيناً. ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة بذلك؟ انتهى، ولا يتم له هذا إلا على قراءة من قرأ فك فعلاً ماضياً.
وقرأ ابن كثير والنحويان: فك فعلاً ماضياً، رقبة نصب، أو أطعم فعلاً ماضياً؛ وباقي السبعة: فك مرفوعاً، رقبة مجروراً، وإطعام مصدر منون معطوف على فك. وقرأ عليّ وأبو رجاء كقراءة ابن كثير، إلا أنهما قرآ: ذا مسغبة بالألف. وقرأ الحسن وأبو رجاء أيضاً: أو إطعام في يوم ذا بالألف، ونصب ذا على المفعول، أي إنساناً ذا مسغبة، ويتيماً بدل منه أو صفة. وقرأ بعض التابعين: فك رقبة بالإضافة، أو أطعم فعلاً ماضياً. ومن قرأ فك بالرفع، فهو تفسير لاقتحام العقبة، والتقدير: وما أدراك ما اقتحام العقبة. ومن قرأ فعلاً ماضياً، فلا يحتاج إلى تقدير مضاف، بل يكون التعظيم للعقبة نفسها، ويجيء فك بدلاً من اقتحم، قاله ابن عطية. وفك الرقبة: تخليصها من الأسر والرق. {ذا مقربة}: ليجتمع صدقة وصلة، وأو هنا للتنويع، ووصف يوم بذي مسغبة على الاتساع. {ذا متربة}، قال: هم المطروحون على ظهر الطريق قعوداً على التراب، لا بيوت لهم. وقال ابن عباس: هو الذي يخرج من بيته، ثم يقلب وجهه إليه مستيقناً أنه ليس فيه إلا التراب.
{ثم كان من الذين آمنوا}: هذا معطوف على قوله: {فلا اقتحم}؛ ودخلت ثم لتراخي الإيمان والفضيلة، لا للتراخي في الزمان، لأنه لابد أن يسبق تلك الأعمال الحسنة الإيمان، إذ هو شرط في صحة وقوعها من الطائع، أو يكون المعنى: ثم كان في عاقبة أمره من الذين وافوا الموت على الإيمان، إذ الموافاة عليه شرط في الانتفاع بالطاعات، أو يكون التراخي في الذكر كأنه قيل: ثم اذكر أنه كان من الذين آمنوا. {وتواصوا بالصبر}: أي أوصى بعضهم بعضاً بالصبر على الإيمان والطاعات وعن المعاصي، {وتواصوا بالمرحمة}: أي بالتعاطف والتراحم، أو بما يؤدي إلى رحمة الله. والميمنة والمشأمة تقدّم القول فيهما في الواقعة. وقرأ أبو عمرو وحمزة وحفص: {مؤصدة} بالهمز هنا وفي الهمزة، فيظهر أنه من آصدت قيل: ويجوز أن يكون من أوصدت، وهمز على حد من قرأ بالسؤق مهموزاً. وقرأ باقي السبعة بغير همز، فيظهر أنه من أوصدت. وقيل: يجوز أن يكون من آصدت، وسهل الهمزة، وقال الشاعر:
قوماً تعالج قملاً أبناءهم ** وسلاسلاً حلقاً وباباً مؤصداً

.سورة الشمس:

.تفسير الآيات (1- 15):

{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)}
ولما تقدّم القسم ببعض المواضع الشريفة وما بعدها، أقسم هنا بشيء من العالم العلوي والعالم والسفلي، وبما هو آلة التفكر في ذلك، وهو النفس. وكان آخر ما قبلها مختتماً بشيء من أحوال الكفار في الآخرة، فاختتم هذه بشيء من أحوالهم في الدنيا، وفي ذلك بمآلهم في الآخرة إلى النار، وفي الدنيا إلى الهلاك المستأصل. وتقدم الكلام على ضحى في سورة طه عند قوله: {وأن يحشر الناس ضحى} وقال مجاهد: هو ارتفاع الضوء وكماله. وقال مقاتل: حرها لقوله {ولا تضحى} وقال قتادة: هو النهار كله، وهذا ليس بجيد، لأنه قد أقسم بالنهار. والمعروف في اللغة أن الضحى هو بعيد طلوع الشمس قليلاً، فإذا زاد فهو الضحاء، بالمد وفتح الضاد إلى الزوال، وقول مقاتل تفسير باللازم. وما نقل عن المبرد من أن الضحى مشتق من الضح، وهو نور الشمس، والألف مقلوبة من الحاء الثانية؛ وكذلك الواو في ضحوة مقلوبة عن الحاء الثانية، لعله مختلق عليه، لأن المبرد أجل من أن يذهب إلى هذا، وهذان مادتان مختلفتان لا تشتق إحداهما من الأخرى.
{والقمر إذا تلاها}، قال الحسن والفراء: تلاها معناه تبعها دأباً في كل وقت، لأنه يستضيء منها، فهو يتلوها لذلك. وقال ابن زيد: يتلوها في الشهر كله، يتلوها في النصف الأول من الشهر بالطلوع، وفي الآخر بالغروب. وقال ابن سلام: في النصف الأول من الشهر، وذلك لأنه يأخذ موضعها ويسير خلفها، إذا غابت يتبعها القمر طالعاً. وقال قتادة: إنما ذلك البدر، تغيب هي فيطلع هو. وقال الزجاج وغيره: تلاها معناه: امتلأ واستدار، وكان لها تابعاً للمنزل من الضياء والقدر، لأنه ليس في الكواكب شيء يتلو الشمس في هذا المعنى غير القمر. وقيل: من أول الشهر إلى نصفه، في الغروب تغرب هي ثم يغرب هو؛ وفي النصف الآخر يتحاوران، وهو أن تغرب هي فيطلع هو. وقال الزمخشري: تلاها طالعاً عند غروبها أخداً من نورها وذلك في النصف الأول من الشهر.
{والنهار إذا جلاها}: الظاهر أن مفعول جلاها هو الضمير عائد على الشمس، لأنه عند انبساط النهار تنجلي الشمس في ذلك الوقت تمام الإنجلاء. وقيل: يعود على الظلمة. وقيل: على الأرض. وقيل: على الدنيا، والذي يجلي الظلمة هو الشمس أو النهار، فإنه وإن لم تطلع الشمس لا تبقى الظلمة، والفاعل بجلاها ضمير النهار. قيل: ويحتمل أن يكون عائداً على الله تعالى، كأنه قال: والنهار إذا جلى الله الشمس، فأقسم بالنهار في أكمل حالاته.
{والليل إذا يغشاها}: أي يغشى الشمس، فبدخوله تغيب وتظلم الآفاق، ونسبة ذلك إلى الليل مجاز. وقيل: الضمير عائد على الأرض، والذي تقتضيه الفصاحة أن الضمائر كلها إلى قوله: {يغشاها} عائدة على الشمس.
وكما أن النهار جلاها، كان النهار هو الذي يغشاها. ولما كانت الفواصل ترتبت على ألف وهاء المؤنث، أتى {والليل إذا يغشاها} بالمضارع، لأنه الذي ترتب فيه. ولو أتى بالماضي، كالذي قبله وبعده، كان يكون التركيب إذا غشيها، فتفوت الفاصلة، وهي مقصودة. وقال القفال ما ملخصه: هذه الأقسام بالشمس في الحقيقة بحسب أوصاف أربعة: ضوءها عند ارتفاع النهار وقت انتشار الحيوان، وطلب المعاش، وتلو القمر لها بأخذه الضوء، وتكامل طلوعها وبروزها وغيبوبتها بمجيء الليل. وما في قوله: {وما بناها}, {وما طحاها}, {وما سواها}، بمعنى الذي، قاله الحسن ومجاهد وأبو عبيدة، واختاره الطبري، قالوا: لأن ما تقع على أولي العلم وغيرهم. وقيل: مصدرية، قاله قتادة والمبرد والزجاج، وهذا قول من ذهب إلى أن ما لا تقع على آحاد أولي العلم.
وقال الزمخشري: جعلت مصدرية، وليس بالوجه لقوله: {فألهمها}، وما يؤدي إليه من فساد النظم والوجه أن تكون موصولة، وإنما أوثرت على من لإرادة معنى الوصفية، كأنه قيل: والسماء والقادر العظيم الذي بناها، ونفس والحكيم الباهر الحكمة الذي سواها، وفي كلامهم سبحان من سخركن لنا، انتهى.
أما قوله: وليس بالوجه لقوله: {فألهمها}، يعني من عود الضمير في {فألهمها} على الله تعالى، فيكون قد عاد على مذكور، وهو ما المراد به الذي، ولا يلزم ذلك لأنا إذا جعلناها مصدرية عاد الضمير على ما يفهم من سياق الكلام؛ ففي بناها ضمير عائد على الله تعالى، أي وبناها هو، أي الله تعالى، كما إذا رأيت زيداً قد ضرب عمراً فقلت: عجبت مما ضرب عمراً تقديره: من ضرب عمر؟ وهو كان حسناً فصيحاً جائزاً، وعود الضمير على ما يفهم من سياق الكلام كثير، وقوله: وما يؤدي إليه من فساد النظم ليس كذلك، ولا يؤدي جعلها مصدرية إلى ما ذكر، وقوله إنما أوثرت إلخ لا يراد بما ولا بمن الموصولتين معنى الوصفية، لأنهما لا يوصف بهما، بخلاف الذي، فاشتراكهما في أنهما لا يؤديان معنى الوصفية موجود فيهما، فلا ينفرد به ما دون من، وقوله: وفي كلامهم إلخ. تأوله أصحابنا على أن سبحان علم وما مصدرية ظرفية.
وقال الزمخشري: فإن قلت: الأمر في نصب إذا معضل، لأنك إما أن تجعل الواوات عاطفة فتنصب بها وتجر، فتقع في العطف على عاملين، وفي نحو قولك: مررت أمس بزيد واليوم عمرو؛ وأما أن تجعلهن للقسم، فتقع فيما اتفق الخليل وسيبويه على استكراهه. قلت: الجواب فيه أن واو القسم مطرح معه إبراز الفعل إطراحاً كلياً، فكان لها شأن خلاف شأن الباء، حيث أبرز معها الفعل وأضمر، فكانت الواو قائمة مقام الفعل، والباء سادة مسدهما معاً، والواوات العواطف نوائب عن هذه، فحقهن أن يكن عوامل على الفعل والجار جميعاً، كما تقول؛ ضرب زيد عمراً وبكر خالداً، فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام ضرب الذي هو عاملهما، انتهى.
أما قوله في واوات العطف فتنصب بها وتجر فليس هذا بالمختار، أعني أن يكون حرف العطف عاملاً لقيامه مقام العامل، بل المختار أن العمل إنما هو للعامل في المعطوف عليه، تم إنا لإنشاء حجة في ذلك. وقوله: فتقع في العطف على عاملين، ليس ما في الآية من العطف على عاملين، وإنما هو من باب عطف اسمين مجرور ومنصوب على اسمين مجرور ومنصوب، فحرف العطف لم ينب مناب عاملين، وذلك نحو قولك: امرر بزيد قائماً وعمرو جالساً؟ وقد أنشد سيبويه في كتابه:
فليس بمعروف لنا أن نردها ** صحاحاً ولا مستنكران تعقرا

فهذا من عطف مجرور، ومرفوع على مجرور ومرفوع، والعطف على عاملين فيه أربع مذاهب، وقد نسب الجواز إلى سيبويه وقوله في نحو قولك: مررت أمس بزيد واليوم عمرو، وهذا المثال مخالف لما في الآية، بل وزان ما في الآية: مررت بزيد أمس وعمرو اليوم، ونحن نجيز هذا. وأما قوله على استكراه فليس كما ذكر، بل كلام الخليل يدل على المنع. قال الخليل: في قوله عز وجل: {والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى} الواوان الأخيرتان ليستا بمنزلة الأولى، ولكنهما الواوان اللتان يضمان الأسماء إلى الأسماء في قولك: مررت بزيد وعمرو، والأولى بمنزلة الباء والتاء، انتهى. وأما قوله: إن واو القسم مطرح معه إبراز الفعل إطراحاً كلياً، فليس هذا الحكم مجمعاً عليه، بل قد أجاز ابن كيسان التصريح بفعل القسم مع الواو، فتقول: أقسم أو أحلف والله لزيد قائم. وأما قوله: والواوات العواطف نوائب عن هذه الخ، فمبني على أن حرف العطف عامل لنيابته مناب العامل، وليس هذا بالمختار.
والذي نقوله: إن المعضل هو تقرير العامل في إذا بعد الاقسام، كقوله: {والنجم إذا هوى} {والليل إذ أدبر والصبح إذا أسفر} {والقمر إذا تلاها}، {والليل إذا يغشى} وما أشبهها. فإذا ظرف مستقبل، لا جائز أن يكون العامل فيه فعل القسم المحذوف، لأنه فعل إنشائي. فهو في الحال ينافي أن يعمل في المستقبل لإطلاق زمان العامل زمان المعمول، ولا جائز أن يكون ثم مضاف محذوف أقيم المقسم به مقامه، أي: وطلوع النجم، ومجيء الليل، لأنه معمول لذلك الفعل. فالطلوع حال، ولا يعمل فيه المستقبل ضرورة أن زمان المعمول زمان العامل، ولا جائز أن يعمل فيه نفس المقسم به لأنه ليس من قبيل ما يعمل، سيما إن كان جزماً، ولا جائز أن يقدر محذوف قبل الظرف فيكون قد عمل فيه، ويكون ذلك العامل في موضع الحال وتقديره: والنجم كائناً إذا هوى، والليل كائناً إذا يغشى، لأنه لا يلزم كائناً أن يكون منصوباً بالعامل، ولا يصح أن يكون معمولاً لشيء مما فرضناه أن يكون عاملاً.
وأيضاً فقد يكون القسم به جثة، وظروف الزمان لا تكون أحوالاً عن الجثث، كما لا تكون أخباراً.
{ونفس وما سواها}: اسم جنس، ويدل على ذلك ما بعده من قوله: {فألهمها} وما بعده، وتسويتها: إكمال عقلها ونظرها، ولذلك ارتبط به {فألهمها}، لأن الفاء تقتضي الترتيب على ما قبلها من التسوية التي هي لا تكون إلا بالعقل. وقال الزمخشري: فإن قلت: لم نكرت النفس؟ قلت: فيه وجهان: أحدها: أن يريد نفساً خاصة من النفوس، وهي نفس آدم، كأنه قال: وواحدة من النفوس، انتهى. وهذا فيه بعد للأوصاف المذكورة بعدها، فلا تكون إلا للجنس. ألا ترى إلى قوله: {قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها}، كيف تقتضي التغاير في المزكى وفي المدسى؟ {فألهمها}، قال ابن جبير: ألزمها. وقال ابن عباس: عرفها. وقال ابن زيد: بين لها. وقال الزجاج: وفقها للتقوى، وألهمها فجورها: أي خذلها، وقيل: عرفها وجعل لها قوة يصح معها اكتساب الفجور واكتساب التقوى. وقال الزمخشري: ومعنى إلهام الفجور والتقوى: إفهامها وإعقالها، وأن أحدهما حسن والآخر قبيح، وتمكينه من اختيار ما شاء منهما بدليل قوله: {قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها}، فجعله فاعل التزكية والتدسية ومتوليهما. والتزكية: الإنماء، والتدسية: النقص والإخفاء بالفجور. انتهى، وفيه دسيسة الاعتزال.
{قد أفلح من زكاها}، قال الزجاج وغيره: هذا جواب القسم، وحذفت اللام لطول الكلام، والتقدير: لقد أفلح. وقيل: الجواب محذوف تقديره لتبعثن. وقال الزمخشري: تقديره ليدمدمن الله عليهم، أي على أهل مكة، لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما دمدم على ثمود لأنهم كذبوا صالحاً. وأما {قد أفلح من زكاها} فكلام تابع لقوله: {فألهمها فجورها وتقواها} على سبيل الاستطراد، وليس من جواب القسم في شيء، انتهى. وزكاؤها: ظهورها ونماؤها بالعمل الصالح، ودساها: أخفاها وحقرها بعمل المعاصي. والظاهر أن فاعل زكى ودسى ضمير يعود على من، وقاله الحسن وغيره. ويجوز أن يكون ضمير الله تعالى، وعاد الضمير مؤنثاً باعتبار المعنى من مراعاة التأنيث. وفي الحديث ما يشهد لهذا التأويل، كان عليه السلام إذا قرأ هذه الآية قال: «اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها» وقال الزمخشري: وأما قول من زعم أن الضمير في زكى ودسى لله تعالى، وأن تأنيث الراجع إلى من لأنه في معنى النفس، فمن تعكيس القدرية الذين يوركون على الله قدراً هو بريء منه ومتعال عنه، ويحيون لياليهم في تمحل فاحشة ينسبونها إليه تعالى، انتهى. فجرى على عادته في سب أهل السنة. هذا، وقائل ذلك هو بحر العلم عبد الله بن عباس، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «وزكها أنت خير من زكاها».
وقال تعالى: {دساها} في أهل الخير بالرياء وليس منهم؛ وحين قال: {وتقواها} أعقبه بقوله: {قد أفلح من زكاها}. ولما قال: {وقد خاب من دساها}، أعقبه بأهل الجنة. ولما ذكر تعالى خيبة من دسى نفسه، ذكر فرقة فعلت ذلك ليعتبر بهم. {بطغواها}: الباء عند الجمهور سببية، أي كذبت ثمود نبيها بسبب طغيانها. وقال ابن عباس: الطغوى هنا العذاب، كذبوا به حتى نزل بهم لقوله: {فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية} وقرأ الجمهور: {بطغواها} بفتح الطاء، وهو مصدر من الطغيان، قلبت فيه الياء واواً فصلاً بين الاسم وبين الصفة، قالوا فيها صرنا وحدنا، وقالوا في الاسم تقوى وشروي. وقرأ الحسن ومحمد بن كعب وحماد بن سلمة: بضم الطاء، وهو مصدر كالرجعى، وكان قياسها الطغيا بالياء كالسقيا، لكنهم شذوا فيه. {إذ انبعث}: أي خرج لعقر الناقة بنشاط وحرص، والناصب لإذ {كذبت}، و{أشقاها}: قدار بن سالف، وقد يراد به الجماعة، لأن أفعل التفضيل إذا أضيف إلى معرفة جاز إفراده وإن عنى به جمع. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكونوا جماعة، والتوحيد لتسويتك في أفعل التفضيل إذا أضفته بين الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، وكان يجوز أن يقال: أشقوها، انتهى. فأطلق الإضافة، وكان ينبغي أن يقول: إلى معرفة، لأن إضافته إلى نكرة لا يجوز فيه إذ ذاك إلا أن يكون مفرداً مذكراً، كحاله إذا كان بمن. والظاهر أن الضمير في {لهم} عائد على أقرب مذكور وهو {أشقاها} إذا أريد به الجماعة، ويجوز أن يعود على {ثمود}. {رسول}: هو صالح عليه السلام. وقرأ الجمهور: {ناقة الله} بنصب التاء، وهو منصوب على التحذير مما يجب إضمار عامله، لأنه قد عطف عليه، فصار حكمه بالعطف حكم المكرر، كقولك: الأسد الأسد، أي احذروا ناقة الله وسقياها فلا تفعلوا ذلك.
{فكذبوه}، الجمهور على أنهم كانوا كافرين، وروي أنهم كانوا قد أسلموا قبل ذلك وتابعوا صالحاً بمدة، ثم كذبوا وعقروا، وأسند العقر للجماعة لكونهم راضين به ومتمالئين عليه. وقرأ الجمهور: {فدمدم} بميم بعد دالين؛ وابن الزبير: قد هدم بهاء بينهما، أي أطبق عليهم العذاب مكرراً ذلك عليهم، {بذنبهم}: فيه تخويف من عاقبة الذنوب، {فسواها}، قيل: فسوى القبيلة في الهلاك، عاد عليها بالتأنيث كما عاد في {بطغواها}. وقيل: سوى الدمدمة، أي سواها بينهم، فلم يفلت منهم صغيراً ولا كبيراً. وقرأ أبيّ والأعرج ونافع وابن عامر: فلا يخاف بالفاء؛ وباقي السبعة ولا بالواو؛ والضمير في يخاف الظاهر عوده إلى أقرب مذكور وهو ربهم، أي لأدرك عليه تعالى في فعله بهم لا يسئل عما يفعل، قاله ابن عباس والحسن، وفيه ذم لهم وتعقبه لآثارهم. وقيل: يحتمل أن يعود على صالح، أي لا يخاف عقبى هذه الفعلة بهم، إذ كان قد أنذرهم وحذرهم. ومن قرأ: ولا يحتمل الضمير الوجهين. وقال السدي والضحاك ومقاتل والزجاج وأبو علي: الواو واو الحال، والضمير في يخاف عائد على {أشقاها}، أي انبعث لعقرها، وهو لا يخاف عقبى فعله لكفره وطغيانه، والعقبى: خاتمة الشيء وما يجيء من الأمور بعقبه، وهذا فيه بعد لطول الفصل بين الحال وصاحبها.